في "دار الإسلام" كل مخلوق له حق في الحياة الكريمة، بدءا بالحيوان، وصعودا الى الإنسان، مخلوق الله المختار. إذ يكفي أن يكون المخلوق من صنع الله. ليرتب له ذلك حقوقا في رفع كل صور المهانة والأذى عنه.
وقصة المرأة التي كتب عليها ان تدخل النار في "هرة عذبتها" معروفة. والرجل الذي كتبت له الجنة لأنه سقى قلبا عانى من العطش لها دلالتها ومغزاها.
وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز يؤرقه أن الإبل في مصر تحمل فوق طاقتها، فكتب بنفسه إلى واليه هناك قائلا: أما بعد، فقد بلغني ان الحمالين في مصر يحملون على ظهور الإبل ما لا تطيق. فإذا جاءك كتابي هذا، فامنع أن يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل* معجزة الإسلام عمر بن عبدالعزيز ـ خالد محمد خالد.
وعندما يبصر في جولاته أناسا يحملون مقارع في أسفلها حديدة مدببة ينخسون بهوا دوابهم، فلا يكاد يستقر في مجلسه حتى يوقع قرار يحرم استخدام هذه المقارع!
وعندما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن تشميس دود القز ليموت في نسيجه، ويستخدم منه الحرير الذي يستخدم في الصناعة ( وكان هذا الأسلوب معروفا في العراق على عصره)، كان رده: إذا لم يجدوا منه بدا، ولم يريدوا بذلك أن يعذبوه بالشمس. فهو يجيز إماتة الدودة، فقط إذا كانت من ضروريات الصناعة!
هذا عن الحيوان في عالم الإسلام، فما بالكم الإنسان؟
والإنسان في القرآن، هو المخلوق المكرم الذي سخرت من اجل إسعاده السموات والأرض، بل هو خليفة الله في هذه الأرض. هل يمكن أن يقبل له الإسلام أذى أو مهانة بأي قدر؟.. وهل هناك أذى للإنسان ومهانة لكرامته أكثر من الفقر، ذلك الذي "يذل أعناق الرجال"؟
لقد كان طبيعيا، ومنسجما مع تكريم الله الإنسان، أن يقف الإسلام موقف الرافض العنيف للفقر، بل موقف الفزع الأكبر على الناس من الجوع، والمحرض الأكبر لهم على أن ينتزعوا بأظافرهم حقهم في القوت من الأغنياء.
"الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم" ـ البقرة: 268.
وقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام دعاء شهير يقول فيه" اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر. فقال رجل: أيعدلان؟، أي هل هما في مقام واحد، فكان رده نعم.
وثمة دعاء آخر بنفس المعنى يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أظلم أو أظلم ـ رواه أبوداود والنسائي.
وبنفس المنطق يجيء الحديث الشريف: كاد الفقر أن يكون كفر ـ رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس.
وفي قول علي بن أبي طالب: لو كان الفقر رجلا لقتلته. ومن أقوال بعض السلف: إذا ذهب الفقر الى بلد قال له الكفر خذني معك! ومما قاله ذو النون المصري الصوفي: أكفر الناس، ذو فاقة لا صبر له. وقل في الناس الصابر!
وقد نقل عن الإمام أبي حنيفة قوله: لا تستشر من ليس في بيته دقيق! إذ كيف يكون للرجل رأي مصيب وفكره مشغول بمشكلة قوته؟
بعد "الرفض"، ما هو الحل الإسلامي للمشكلة؟
ربما كان من أفضل الكتابات في معالجة هذه القضية ما كتبه أبو عبيد اللقاسم في مؤلفه الموسوعي "المال"، وما عرضه الفقيه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، ورسالته العلمية التي نال بها الدكتوراه حول موضوع لصيق بالقضية هو: الزكاة. والدكتور القرضاوي يطرح حلولا أربعة كفلها الإسلام لمواجهة مشكلة الفقر.
فالأصل أن كل إنسان في عالم الإسلام مطالب بأن يعمل ما دام قادرا على ذلك " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" ـ الملك ـ والعمل قرين الجهاد " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله" ـ المزمل 10 و.. " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" ـ رواه البخاري .. و"اليد العليا خير من اليد السفلى" ـ رواه أبي عمر.
والآيات والأحاديث وشواهد التاريخ الإسلامي معروفة لدى الكثيرين، وكلها تؤكد قيمة العمل وتعززها، بالأمر حينا، وبالنصح حينا، وبالتغريب مرة وبالترهيب مرة.
بعد ذلك يجيء العنصر الثاني من حلول مشكلة الفقر، وهو: كفالة الموسرين والأقارب، ذلك أن " أولو الأرحام أولى ببعض في كتاب الله" ـ الآية الأخيرة من سورة الأنفال ـ" إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" ـ النحل. ( لاحظ كلمة يأمر) ـ و .. " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" ـ متفق عليه. والتشريع الإسلامي هو الوحيد الذي ينفرد بإقرار هذا الحق للفقير تجاه قريبه الموسر.
و"الزكاة" هي الحل الثالث. وهي ليست أحد أركان الإسلام الخمسة فقط، ولا قرينة الصلاة فقط، ولكنها أيضا العبادة الوحيدة التي يمتد أثرها الى الناس بصورة مباشرة. فهذا مال يقتطع بنسبة معينة، ليوجه الى مصاريف محددة في المجتمع. بينما الأركان الأربعة الأخرى تقوم على علاقة الإنسان بربه. ولا تنعكس على الآخرين إلا في صورة غير مباشرة، بقدر انعكاس أداء شعائرها على خلق المسلم وسلوكه.
ولخطورة الدور الذي تؤديه، فقد تشدد الرسول عليه السلام في شأنها حتى قال:" من أعطاها مؤتجرا ( أي طالبا للأجر والثواب) فله أجرها. ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر ماله ( أي نصفه) غرمة من غرمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء".
وهذا الحديث يقول الدكتور القرضاوي ـ يجيز لولي الأمر مصادرة نصف مال من امتنع عن أداء زكاته. وهو نوع من العقوبات المالية التي يتخذها الحاكم عند الحاجة تأديبا للممتنعين والمتهربين. وبذلك صارت الزكاة هي الركن الوحيد من اركان الإسلام الذي يخضع المسلم لعقاب دنيوي إذا قصر في أدائه.
ولنفس السبب قاتل الخليفة الأول أبو بكر الصديق ومعه الصحابة، مانعي الزكاة. وقال كلمته المشهورة "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
وهو ما استند اليه فقيهنا ابن حزم في فتواه:" وحكم مانع الزكاة، إنما هو أن تؤخذ منه، احب أم كره، فإن مانع دونها فهو محارب، فإن كذب بها فهو مرتد، فإن غيبها ولم يمانع فهو آت منكرا. فوجب تأديبه أو ضربه حتى يحضرها، أو يموت قتيل الله تعالى الى لعنة الله. المحلى جـ 11.
وللزكاة ـ كما نعلم ـ مصارف ثمانية محددة " إنما الصدقات على الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم" ـ التوبة 58، 60.
والذي يتصل بموضوعنا ان هذه الزكاة فريضة على المال من صاحب المال الأصلي وواهبه سبحانه، وانها ليست تبرعا من الأغنياء، ولكنها حق الفقراء. "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" ـ الذاريات 19ـ.. وإن الهدف الأساسي لها هو إعانة ذوي الحاجة من المسلمين.
وهناك من يحاول أن يصور العدالة الاجتماعية في الإسلام بانها "عدالة قائمة على الصدقات"، بمعنى التبرع ومد اليد. ويغيب عن هؤلاء أن الإسلام يعتبره مال الله في الأساس، وان نصيب الفقراء فيما لدى الأغنياء هو "حق" بالدرجة الأولى، وأن الزكاة ليست متروكة لتطوع القادرين وأمزجتهم، ولكنها فريضة واجبة، تقتطع من مالهم إذا تقاعسوا عنها. أي أنها في حقيقتها " ضريبة" سنوية واجبة للحاكم المسلم، هدفها تحقيق التكافل في دار الإسلام، حتى لا يظل المال " دولة بين الأغنياء".
لكن هذه الزكاة المفروضة ليست كل حق الفقراء فيما لدى الأغنياء، ولكنها الأدنى المفروض في الأموال. ولولي الأمر إذا لم تسد الزكاة حاجة فقراء المسلمين أن يأخذ المزيد من الأغنياء، بالقدر الذي يسد هذه الحاجة. والحديث الشريف صريح في ذلك "ان في المال حقا سوى الزكاة" ـ رواه الشيخان.