والمصدر الرابع لمعالجة مشكلة الفقر هو الخزانة الإسلامية بمختلف مواردها. ففي أملاك الدولة الإسلامية، والأموال العامة التي تديرها وتشرف عليها، بالإستغلال او الإيجار أو المشاركة. وفي خمس الغنائم ـ إن وجدت ـ وفي مال الفيء وفي الخراج ( الضرائب العقارية).. في كل هذه الموارد نصيب للمحتاجين والمعوزين.
"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم" ـ الحشر 7. ولنذكر قسم الخليفة عمر بن الخطاب الى ذلك. إذ أن المقصود بإشارته هم الذين يعيشون في دار الإسلام. وعمر نفسه هو الذي أثار انتباهه شيخ من يسأل الناس، فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: ذمي ( وكان يهوديا) فرد عمر: ما أنصفناك؟.. أكلنا شيبتك ثم نضيعك في هرمك. وأخذه الى بيته فأعطاه ما وجده عنده، وارسل الى مسؤول بيت المال يقول: الى هذا وضربائه، فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم.
ذلك أنه عندما يتصل الأمر بالفقر والحاجة، فإن القضية المطروحة تصبح قضية كرامة الإنسان، مجرد كونه إنسانا، مسلما أو غيرمسلم. والنص القرآني " ولقد كرمنا بني آدم"، ولم يقصر التكريم على مخلوق دون آخر.
وليس الهدف من هذا كله أن يعيش الإنسان في عالم الإسلام عند حدود الكفاف. ولكن الهدف هو سد حاجة الإنسان قدر الإمكان، ليعيش حياة كريمة تليق بمخلوق الله المختار.
والحديث الشريف يقول: من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليس له زوج فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة ـ رواه الإمام أحمد وأبو داود. " وإذا كان الحديث واردا في حق موظفي الدولة، إلا أن العلة التي اقتضت حصول الموظف على ذلك، وهي تحقيق كفاية للقيام بعمله بأمانة واستقرار، تقتضي توفير ذلك لجميع العاملين، ولو بإسهام من بيت المال" إشتراكية الإسلام ـ د. مصطفى السباعي.
وعمر بن الخطاب هو صاحب القول: إذ أعطيتم فأغنوا.
وقد سئل الإمام الحسن البصري عن الرجل تكون له الدار الخادم، أيأخذ من الزكاة؟.. فأجاب بأنه يأخذ ان احتاج، ولا حرج عليه. الأموال لأبي عبيد.
وثمة اتفاق بين أئمة المذاهب الأربعة، حتى قال الأحناف: لا بأس بأن يعطى الزكاة من له مسكن، وما يتأثث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاح، وثياب البدن، وكتب العلم ان كان من أهله. واستدلوا على ذلك بقول الحسن اليصري ( كانوا يعدون الزكاة لمن كان يملك عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والخادم والدار). والمعنى بذلك هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن هذه الأشياء من الحوائج اللازمة التي لا بد للإنسان منها، فكان وجودها وعدما؛ سواء" بدائع الصنائع للكاساني جـ 2.
وقد أفتى الفقهاء بأن العابد لا يستحق زكاة بينما العالم المحتاج يستحقها، لأن الأول ينفع نفسه والآخر ينفع الناس بعلمه! مشكلة الفقر ـ الدكتور يوسف القرضاوي.
هؤلاء وأمثالهم، يعتبرون " أصحاب حاجة" يحق لهم نصيب من الزكاة!..
أليس هذا أمرا مدهشا؟
أليس مدهشا أيضا أن يعطى أحد المحتاجين ثلاثا من الإبل من بيت المال في عهد عمر بن الخطاب، فيحث عمر موظفي بيت المال على أن يزيدوا أمثاله ويقول: كثروا عليهم الصدقة وان راح على أحدهم مائة من الإبل"؟
وأليس مدهشا أن يبلغ هذا الأحساس بالتكافل مدى يدفع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى أن يفرض لكل مولود مائة درهم، فإذا ترعرع زاده الى مائتين، فإذا بلغ زاده كذلك.
بينما عمر بن عبدالعزيز يطوف المنادون: أين المساكين؟ أين الغارمون ( المدينون)؟.. أين الناحكون ( الراغبون في الزواج)؟ أين اليتامى؟.. حتى قيل: ما مات عمر بن عبدالعزبز، حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله.
وهذه الملابسات والشواهد، هي التي استند اليها ابن حزم في كتابه المحلى وهو يحدد الكفاية التي بدونها يصبح الإنسان فقيرا. إذ قرر أن أدنى ما يتحقق به المستوى الإنساني لمن يعيش في دار الإسلام هو: طعام وشراب ملائمين، وكسوة للشتاء وآخرى للصيف، ومسكن يليق بحاله. ( أي حقوق المأكل والملبس والمسكن).
وإذا لم يتحقق هذا الحلم العظيم، ووقع المحظور، واستبد الفقر بالمسلم.. إذا جاع مثلا؟؟
هنا ترتج الأرض والسماء، فهذا مخلوق الله المختار وخليفته على الأرض يتعرض لمذلة الفقر ومهانة السؤال. وهنا تقف النصوص الإسلامية موقفا بالغ الحزم والعنف، تجرم الحدث، وتدعو الى إزالة آثار الجريمة بكافة وسائل الترهيب والتحريض.
هنا تتوالى الأحاديث:
*أيما أهل عرصة ـ منطقة أو حي سكن ـ أصبح فيهم أمرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله ـ
*ثم هذا الحديث الخطير في مدلوله: إذا بات المؤمن جائعا فلا مال لأحد.
ويعلق الدكتور علي البارودي على هذا الحديث في كتابه:" دروس في الإشتراكية العربية" بقوله إنه ما دام في المجتمع جائع واحد أو عار واحد،
فإن حق الملكية لأي فرد من أفراد هذا المجتمع لا يمكن أن يكون شرعيا، ولا يجب احترامه ولا تجوز حمايته. ومعنى ذلك أن هذا الجائع يسقط شرعية حقوق الملكية إلى أن يشبع" العدل الاجتماعي ـ د. عماد الدين خليل.
وقد حدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصاب بعض المسلمين عطش شديد، فمروا على بئر، ولكن أصحابه رفضوا أن يشربوا منه "فلما وفدوا على عمر بالأمر فقال: هلا وضعتم فيهم السلاح" الخراج لأبي يوسف.
ومشهور بيننا قول الصحابي أبو ذر الغفاري: عجبت لمسلم لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهرا سيفه!
وفي المحلى (جـ 6) كتب ابن حزم عن المسلم الذي يشتد به الجوع، بينما يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه، فيقول إنه "فرض على صاحب الطعام إطعام الجائع.. وله ـ الجائع أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود ( القصاص) وان قتل المانع فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية. قال الله تعالى: فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله ـ الحجرات 9 ـ ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق".
وفي فقه الحنابلة إنه إذا مات المسلم جوعا فإن القادرين الذين حوله يعتبرون قتله، ويلزمون بدفع الدية عنه، لأنهم مسؤولون أمام الله عنه.
وفي رأي فقهاء آخرين أن المسلم الجائع إذا مات وهو ينتزع حقه من القوت من الأغنياء يعتبر شهيدا، لأنه مات وهو يدفع ظلما اجتماعيا وقع عليه، " ومن مات دون مظلمته فهو شهيد" بنص الحديث الشريف، ثم إنه مات وهو يحاول أن يغيره بيديه منكرا، إذ هو مطالب بذلك شرعا. "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.." إلى آخر الحديث. وقبل أن نطوي هذه الصفحة ينبغي أن ننتبه الى أن هذه النصوص الأخيرة تتعدى الفقر بالناس، هي حالة الجوع.. أي منتهى الفقر.
وبقي أن نتأمل على الجانب الآخر حالة معاكسة: منتهى الغنى!
من كتاب
القرآن و السلطان
فهمى هويدى [/center][/center]